فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الحسن: بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه يشير إلى الله عز وجل.
وفي معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به.
والثاني: لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل.
وفي السماء قولان:
أحدهما: أنها السماء المعروفة، وهو المشهور.
والثاني: أن لمعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: {حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط} الجمل: هو الحيوان المعروف.
فإن قال قائل: كيف خص الجمل دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود؛ والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما لا يدخل الجمل في ثقَب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه، جاز، والناس يقولون: فلان لا يساوي درهمًا، وهذا لا يغني عنك فتيلًا، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل.
والثاني: أن الجمل أكبر شأنًا عند العرب من سائر الدواب، فانهم يقدِّمونه في القوِّة على غيره، لأنه يوقَر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجَّبهم من خلق الإبل، فقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] فآثر الله ذكره على غيره لهذا المعنى.
ذكر الجوابين ابن الانباري.
قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: {حتى يلج الجُمَّلُ} بضم الجيم وتشديد الميم، وقال: هو القَلْس الغليظ.
قال المصنف: وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن عاصم.
قال: وروى مجاهد عن ابن عباس: {حتى يلج الجُمَلُ} بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها.
قلت: وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ: {حتى يلج الجُمْل} بضم الجيم وتسكين الميم.
قلت: وهي قراءة عكرمة.
قال ابن الأنباري: فالجُمَل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجُمَّلُ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجِمال، قيل في جمعها: جُمَلٌ، كما قال: حُجْرة، وحُجَر، وظُلْمة وظُلَم.
وكذلك من قرأ: {الجُمْلَ} يسوغ له أن يقول: الجُمْلُ، بمعنى الجُمَّل، وأن يقول: الجُمْل جمع جُمْلة، مثل: بُسْرة وبُسْر.
وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال، وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: {الجُمْل} بضم الجيم والميم، وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري.
وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: {الجَمْل} بفتح الجيم، وبسكون الميم خفيفة.
قوله تعالى: {في سَمِّ الخياط} السم: في اللغة: الثَّقب.
وفيها ثلاث لغات.
فتح السين، وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع.
قال ابن القاسم: والخياط: المِخْيَط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقِرام والمقرم.
وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو مجلز: في {سم المِخْيَطِ} وقال الزجاج: الخياط: الإبرة، وسَمُّها: ثقبها.
والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة أبدًا.
قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار.
قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} أي: مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السماء} أي لأرواحهم.
جاءت بذلك أخبار صحاح ذكرناها في كتاب التذكرة.
منها حديث البراء بن عازِب، وفيه في قبض روح الكافر قال: ويخرج منها ريح كأنتن جِيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملإٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة.
فيقولون فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحِون فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السماء} الآية.
وقيل: لا تفتح لهم أبواب السماء إذا دعوا؛ قاله مجاهد والنخعي.
وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة لأن الجنة في السماء.
ودل على ذلك قوله: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} والجمل لا يلج فلا يدخلونها ألْبَتَّة.
وهذا دليل قطعيّ لا يجوز العفو عنهم.
وعلى هذا أجمع المسلمون الذين لا يجوز عليهم الخطأ أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لهم ولا لأحد منهم.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فإن قال قائل كيف يكون هذا إجماعًا من الأمة؟ وقد زعم قوم من المتكلمين بأن مقلِّدة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ليسوا في النار.
قيل له: هؤلاء قوم أنكروا أن يكون المقلِّد كافرًا لشبهة دخلت عليهم، ولم يزعموا أن المقلد كافر وأنه مع ذلك ليس في النار، والعلم بأن المقلد كافر أو غير كافر طريقه النظر دون التوقيف والخبر.
وقرأ حمزة والكسائي {لاَ يُفَتَّحُ} بالياء مضمومة على تذكير الجمع.
وقرأ الباقون بالتاء على تأنيث الجماعة؛ كما قال: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] فأنث.
ولما كان التأنيث في الأبواب غير حقيقي جاز تذكير الجمع.
وهي قراءة ابن عباس بالياء.
وخفف أبو عمرو وحمزة والكسائي، على معنى أن التخفيف يكون للقليل والكثير، والتشديد للتكثير والتكرير مرة بعد مرة لا غير، والتشديد هنا أولى لأنه على الكثير أدل.
والجَمَلُ من الإبل.
قال الفرّاء: الجمل زوج الناقة.
وكذا قال عبد الله بن مسعود لما سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة؛ كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعًا.
والجمع جِمَالٌ وأجمال وجمالات وجمائل.
وإنما يسمى جملًا إذا أرْبعَ.
وفي قراءة عبد الله: {حتى يلج الجمل الأصفر في سم الخياط}.
ذكره أبو بكر الأنباري حدّثنا أبي حدّثنا نصر بن داود حدّثنا أبو عبيد حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن ابن كثير عن مجاهد قال في قراءة عبد الله... فذكره.
وقرأ ابن عباس {الجمل} بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها.
وهو حبل السفينة الذي يقال له القلْس، وهو حبال مجموعة، جمع جملة؛ قاله أحمد بن يحيى ثعلب.
وقيل: الحبل الغليظ من القنب.
وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل.
وروى عنه أيضًا وعن سعيد بن جبير: {الجمل} بضم الجيم وتخفيف الميم هو القلْس أيضًا والحبل، على ما ذكرنا آنفا.
وروى عنه أيضًا {الجُمُل} بضمتين جمع جمل؛ كأسد وأُسُد، والجُمْل مثل أسد وأُسْد.
وعن أبي السمال {الجَمْل} بفتح الجيم وسكون الميم، تخفيف جمل.
وسَمُّ الخياط: ثقب الإبرة؛ عن ابن عباس وغيره.
وكل ثقب لطيف في البدن يسمى سَمًّا وسُمًّا وجمعه سُموم.
وجمع السُّم القاتل سِمَام.
وقرأ ابن سِيرين {في سُمِّ} بضم السين.
والخياط: ما يخاط به؛ يقال: خِياط ومخيط؛ مثل إزارٍ ومئزر وقناع ومقنع. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {إن الذين كذبوا بآياتنا} يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا {واستكبروا عنها} أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبرًا {لا تفتح لهم أبواب السماء} يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين.
وفي رواية عن ابن عباس أيضًا قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل، وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم.
وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى به في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء.
وقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسمًا عند العرب قال الشاعر:
جسم الجِمال وأحلام العصافير

وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالًا فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع الشرط محالًا ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعًا.
وقال بعض أهل المعاني: لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفيًا لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك: لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ** وصار القار كاللبن الحليب

قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني: الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبرواعنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار. اهـ.